(١)

 

إنّكَ ترى وتشعر وتدرك. وتعرف أكثر ممّا ينبغي عليك أن تعرف. تعي فوق ما يريد القلب وفوق ما يحتاج وأقل مما يمكّنه على الوقوف طويلاً. أنت هنا، تعتمد على قلبك وتقف على قلبك، لأنك لا تملك سوى قلبك، رغم أنك لا تملكه بالفعل. لكن القلب يتعبه استنادك الطويل عليه ويتأوّه، يبحث عن يقين ينقذه من كل هذا الازدحام. الازدحام المليء بكثرة الوعي والإدراك، الازدحام الذي يتحول إلى فراغ رمادي، لكنه يُزاحم ويخنق صاحبه؛ القلب. - رغم أنه فراغ. رغم أنه ازدحام.. لا يدري أحد كيف يتشابه متضادّان هكذا.




(٢)

أقلّب أوراقاً لا تعنيني. أقلّب الوقت. أقلّب الحديث داخل رأسي.. رأسي لا يبدو مُثقلاً، لكنها فكرة واحدة تبدو معطوبة. أزيحها، بمجرد أن تنتقل أصابعي نحو الورقة التالية. فكرة أخرى تطرق البال، أنسى الصفحات أمامي ولستُ متأكدة إن كنتُ أبتسم حينها. لكنها دائماً ما تسهو الابتسامة، وتنسى أن توقيتها قد يبدو غريباً أحياناً. وقد يبدو غريباً في لحظة كهذه حجم العمق الذي لا تدري، هل أنتَ تسقط فيه، أم أنك بالفعل ترقى إليه؟ كل هذا العمق مأزق، لكنني رغم حجم المأزق أظل أختاره وأحبه. لأنني في كل مرة أتذكر المقولة "كل شيء يتنكر بضدّه". فأعي كم أن هذا المأزق نجاة. كم أنه حياة، رغم أنه موت.



(٣)

أهرب من الحقيقة لأنها في أصلها كذبة. أهرب من الخطوة التي أعرفها بينما أحدّق في هاتفي حتى يجيء النصّ ويكتمل.. ثم لا يحتاج أحد إلى البكاء. أسمع صوتاً ينادي باسمٍ اعرفه أظن أنه اسمي، ولا أدري هل أستجيب أم أنشغل بالنصّ الذي في رأسي لأنه عالقٌ بيني وبين صوتي. وصوتي الذي أعرفه نسي أن يتبعني.. منذ متى؟ صديقي أيضا لا يدري. تعرف جيداً أن كلامك لا يُشبه الحقيقة عندما لا يشبهك صوتك. أصلّي لصوتي حتى يعود. وأصلي للكلمة حتى لا ترحل، أيضاً.

 

 


(٤)

 

حدّثني عن اليد التي لا تطلبها، لكنها دائماً هنا قريبة إلى يدك وقلبك. حدّثني عن القلب الذي يتسع لفوضاك وصخبك وكلامك الذي لا ينتهي. أخبرني عن العين التي تراقب صمتك وهدوءك واختباءك، ثم لا تزعجك ولا تطالبك بشيء، لأنها تحب طبيعتك بكل تقلباتها. عن العين التي لا تريد منك إلا أنت، ولا تريد أكثر مما يأتي منك بكامل رغبتك. أخبرني عن الروح التي تشبه روحك، تنتمي لها وتنتمي إليك.. وسط كل هذه الوحشة. ثم أخبرني عنك عندما تغيب اليد ويغيب القلب والعين والروح. أخبرني عنك عندما تغدو مجرداً من كل شيء إلّاك. وعندما تتجرد حتى من أناك ولا تنتمي إلى ذاتك. حدّثني، وسأحدثك أنا عن الرضا والقبول عند الانتماء وعند التجرّد. سأحدثك كيف يد الله هنا قريبة وحانية، أقرب وأحنّ من كل شيء.. في كل حال.

 

 

 

(٥)

 

تعرف جيداً أن أيدي الناس "قصيرة" بصفتها، مهما حاولوا مدّها إلى قلبك فإنها لا تصل. وأعلم كذلك أن يدي أنا أيضاً لا تطال قلبي، وإنما كل ما أملك فعله هو أن أضع يدي وأداريه لئلا يتساقط.. لئلا يتساقط ما تبقّى منه وما بقي عالقاً فيه. رغم أن كل ما يسقط لا أقدر أنا على إمساكه وإرجاعه. كل دهشة تسقط تغدو موتاً صغيراً معلقاً أو عدماً بلا لون. أتذكر الذي قال لي مرة "والله بساعدج" نسيت أن أخبره أن يكفّر يمينه، لأنهُ لم يقدّمني خطوة، أو نصف خطوة. ولم يؤخّرني بالطبع كذلك. إن كان هذا القلب أحجية، فلا يد هنا تستطيع حلّها. لا يد هنا تملك شفاءه أو كسره. إن كان يتعب أو كان يبتهج فهو في مجرّته يتقلّب خلف مسافاته الخاصة، غارقٌ في عمقهِ ويهذي هذياناً لا يفهم عليه أحد. للهِ هذا القلب، وليَ الرّضا حين أعلم أن أمر الله في كل لحظةٍ يأتي ويقول فيهِ "كن"، فيكونُ بمشيئتهِ ولطفه.

 

 


(٦)

 

بلوزة صوفية في الصيف دائماً، وشاي يُطالبهُ المزاج.. معزوفة تسري بخفة. وأنا والصمت هنا، لذلك لا داعي لأن أركض بداخلي كثيراً. سأنطفئ هنا كما أشاء. ولن يكون هناك سببٌ يقف داخلي يُطالَب بالتبرير. لن ترتجف الكأس في يدي. ولن أقول كلاماً ثقيلاً على أيّ حال. النصر لخفة المكان وللهدوء الذي يسعف الروح دائماً.

 

 



(٧)

 

أعدّ الطيبات في حياتي مثلما يعدد زملائي شكواهم اللامنتهية. أعد الأيام التي انقضت بالفعل، والتي كنت فيها أنا بلا اختباء ولا أقنعة. أعد دفاتري وكلماتي والتي لا أدري كم أصبحت غريبة عني. أحاول أن أهرب من الفكرة التي تخبرني بأني ما عدت أنا، ما عادت الكلمات كلماتي ولا الدفاتر دفاتري.. لا الخطوة التي أمضيها خطوتي ولم تكن يوماً هذه وجهتي. أعد الطيبات في حياتي مجدداً. ثم يبدأ صوت رأسي بسؤال مثل: "أحس إني ماعرف كيف أكون أنا". هذه معضلة وربما لا شيء آخر يعد قضيّتي. كيف أنك لا تعرف كيف تعود أنت. لكني أعود من جديد، ثم أهرب من الفكرة مجدداً، وأعد الطيبات في حياتي.

 

 



 

 





أن ترى "كثرَتَك" في ما يرونه "قِلَّتك"، ثم لا يضرّك ما يرون. أن تؤمن باتساعك وتجدد روحك وازدياد معانيك كل يوم، أو كل لحظة. أن تشعر بالغِنى وبين يديك القليل والناقص والمعيوب. أن تحب نقاط ضعفك، أخطاءك، تفرّدك واختلافك وغرابَتك، لأنه كله من حقك. ألا تحاول أن تُثبت قيمتك، لأنها بيِّنة بما فيه الكفاية. أن تحلّ نظرتك الذاتية محلّ كل العيون. أن يكون بمقدورك أن تضحك على نفسك. أن تتعلم كيف تتزن داخلياً، فلا يزعجك الضجيج حولك والاتّهام وانقلاب الأمور ضدك، وتشعر بسلام الله يملأ روحك وينعكس على جسدك وكلماتك وابتسامتك. أن تجد الراحة والمتعة في فراغك -عندما لا تفعل شيء-، كما تجده في شغلك وانشغالك.
أن تتصالح مع نفسك أي أن تتوقف عن ممارسة أسلوب التسخّط والتشرّط حول ما حولك ومن حولك، لأن ذلك يُظهر مدى تسخّطك حول نفسك. أن تتعلم كيف تتقبل سوء الأشياء كما تتقبل خيرَها، لأن هذه سمة الدنيا ولأنك لستَ في الجنة. أن ترضا عن وجود الناس حولك والأشياء بطبيعتها وتقلباتها واختلافاتها وإن كانت لا تناسبك لأنكَ لستَ هم. أن تتصالح مع فكرة أنك قد لا تتناسب مع كل شيء/كل أحد، فلا تتكلف ولا تكلّف أحد.






لا أرض تحتي تتمهل. أقدامي على غير العادة، على عجلة تمضي.
لا ليل يكفيني كي أتوقف. لا نهار يكفيني لكي أصل.

إني على طريق الكلام. ولم أصل يوماً.

أبحث عن عمق أكبر في روحي كي أستقر. فلا يبدو أليفاً أن تكون هنا.
لا يبدو جيداً أن تكون هنا.

أهرب بقلبي والكلفة كلها في قلبي. أضحك كثيراً على غير العادة.
أضحك وينحشر البكاء في ضحكتي. أبكي كثيراً على غير العادة.

أظن أنني أهرب ولكن..

يحشرني العالم في زاويته. ولست متأكدة من ذات العالم.
لست متأكدة من أرضي بعد.


لقد كنتُ أنا على انعكاس المرآة. أفتش عن عين الكون لأرى نفسي بها، لأرى صورتي من خلالها، بعدما عبرت من خلاليَ الأشياء وأخذت من روحي ما أخذت. لقد كنت أنا.. بهدوء الشعر المسترخي على أكتافي، المطمئن لصمته، أو لصمتي. لقد كنت أنا ببساطة. وكنت أرى ذكرى الحوادث تجري في عيوني. إنني أبحث عن الطبيعة، عن سجيّة الأشياء خارجي. عن سجية الأشياء داخلي. إني أفتش عن الأصل، عن بذرة الأمور، عن ولادتها وأسبابها.. إني أبحث عن أسباب ولادة الأشياء وولادتي.

لم أمنع رأسي يوماً من طرح الأسئلة الكبيرة والصغيرة. أرحب بها كالأصدقاء، وأعلم أنها دليلي نحو اليقين. الصوت داخلي يكرر مراراً: أريد الوعي وأريد اليقين. أراقب حكمة الله بلا توقف، وأبحث عنها في كل الأمكنة، في كل التفاصيل وكل الحيوات. إني أشعر بتدبير الله يفتح لي الأبواب المعنيّة ويغلق عني أبواباً أخرى كثيرة. في كل مرة يلمع الشعور داخلي، أغمض عيني وأمد يدي داخلي، أمد بصيرتي داخلي.. أرني اليقين يا الله.

في كل مرة أكرر " الله"، أعلم أنك داخلي. أعلم أنك في كل شيء. وأدري أن السّعة، كل السعة هي ذاتك العليا ومنها تأتي كل السعة. بحجم السعة داخلي أجد السعة داخل الأشياء وخارج كل شيء. السعة لكي أكون، السعة لكي أرتب خطوتي، السعة من أجل الفكرة أن تأتي، والسعة من أجل الشعور أن ينمو. أعطني المساحة يا رب لكي أقف، لكي أخطو خطوتي. أعطني الحكمة لكي أختار. وأعطني القوة لكي أتوقف.

لم أحمل همّ الوصول يوماً. كل وصول ينتظرني، وأنا في هذه الرحلة لا أبحث إلا عن الأصل وأسباب الأصل، وعن سجية الأشياء وعن الطبيعة. لستُ متأكدة كم يبدو لا مألوفاً هذا العمق في هذا العالم، لكن انتمائي لعالمي يعجبني. ويعجبني كم تبدو الأشياء داخلي قريبة هكذا. كم يبدو من السهل أن ألمس الشعور، أن أقبض على الفكرة، أن يكون سهلاً الوقوف بينهما.. بلا غرابة ولا أقنعة.


 






صوتك الذي مات على أرضك ليس مزحة أبداً. هذه الحرب التي لم تبدأها وهذه العقدة التي لم تشعلها ليست أنت. لكنه يحلو لها أن تستمر داخلك، تنمو داخلك، حتى لا تدري ما الذي سيموت فيك بعد وما الذي سوف يولد.

أبحث عن منفذٍ لروحي..
في اللحظة التي لا ترى فيها عيني سوى دموعي، أمامي.. أظن أنني أغرق.
محيط هائج،
أو ريح عاصفة
أو جبل يستقر على صدرك ولا تدري..

لم تكن أشكال القوة تختلف عن أشكال الضعف دائماً. كان كل شيء يأتي على شاكلة ضده. لقد كنتُ الضدّ الذي يعلن نفسه للناس. وبالطبع لم تكن تلك قضيتي. لست ممن يعبأ بالناس على كل حال. وإنما يحلو للحياة أن تضعك أمام المسألة الأصعب، وهي أن تكون أنت في هذا العالم، أن تملك ما تملكه، أن تكون ما تقتدر عليه، وأن تكون لديك هذه الرغبة العميقة بأن تصل. أن تصل حتى وإن تكسّر قلبك وتضاءلت روحك في كل مرة، حتى وإن أكلك اليأس وابتلعك الخوف وتفشى فيك البرد. عليك أن ترغب بأن تصل. عليك أن تتعامل مع هذه الرغبة. لأنك تعلم جيداً أنك إن قتلتها سوف تموت أنت بعدها بالفعل.

لقد كانت الرغبة تعلن عن نفسها دائماً بلا تردد. هكذا تأتي واضحة جلية وملحة. هكذا تصنع ذاتها وتقرر أن تمكث داخلك. دون أن تنتظر منك أن تشرع أبوابك أو أن تغلقها. وهنا أنا، لم أفتح أبوابي يوماً، وأسواري دائماً ما كانت بعيدة وواسعة. أبحث عن منفذٍ لروحي. ألتقط صوتي، ولا تجد يدي في العمق صوتاً. لا تجد يدي في العمق كلمة. كهذا تستحيل الرغبة قضية عالقة، أستحيل أنا ضجة صامتة.. وأبحث عن منفذٍ لروحي.. هكذا يبدو كل شيء شاهق. وأدري أن العبور شاق. والأبواب لم تناسبني يوماً.