صوتك الذي مات على أرضك ليس مزحة أبداً. هذه الحرب التي لم تبدأها وهذه العقدة التي لم تشعلها ليست أنت. لكنه يحلو لها أن تستمر داخلك، تنمو داخلك، حتى لا تدري ما الذي سيموت فيك بعد وما الذي سوف يولد.

أبحث عن منفذٍ لروحي..
في اللحظة التي لا ترى فيها عيني سوى دموعي، أمامي.. أظن أنني أغرق.
محيط هائج،
أو ريح عاصفة
أو جبل يستقر على صدرك ولا تدري..

لم تكن أشكال القوة تختلف عن أشكال الضعف دائماً. كان كل شيء يأتي على شاكلة ضده. لقد كنتُ الضدّ الذي يعلن نفسه للناس. وبالطبع لم تكن تلك قضيتي. لست ممن يعبأ بالناس على كل حال. وإنما يحلو للحياة أن تضعك أمام المسألة الأصعب، وهي أن تكون أنت في هذا العالم، أن تملك ما تملكه، أن تكون ما تقتدر عليه، وأن تكون لديك هذه الرغبة العميقة بأن تصل. أن تصل حتى وإن تكسّر قلبك وتضاءلت روحك في كل مرة، حتى وإن أكلك اليأس وابتلعك الخوف وتفشى فيك البرد. عليك أن ترغب بأن تصل. عليك أن تتعامل مع هذه الرغبة. لأنك تعلم جيداً أنك إن قتلتها سوف تموت أنت بعدها بالفعل.

لقد كانت الرغبة تعلن عن نفسها دائماً بلا تردد. هكذا تأتي واضحة جلية وملحة. هكذا تصنع ذاتها وتقرر أن تمكث داخلك. دون أن تنتظر منك أن تشرع أبوابك أو أن تغلقها. وهنا أنا، لم أفتح أبوابي يوماً، وأسواري دائماً ما كانت بعيدة وواسعة. أبحث عن منفذٍ لروحي. ألتقط صوتي، ولا تجد يدي في العمق صوتاً. لا تجد يدي في العمق كلمة. كهذا تستحيل الرغبة قضية عالقة، أستحيل أنا ضجة صامتة.. وأبحث عن منفذٍ لروحي.. هكذا يبدو كل شيء شاهق. وأدري أن العبور شاق. والأبواب لم تناسبني يوماً.







عليك أن تقف طويلاً وتنتظر على كلّ حال. على الصبر أن يمتدّ ويتمدد ويكبر ويتّسع ويجعلك تتّزن وتهدأ بينما لا تزال النار بداخلك تشتعل بلا هوادة. على الطريق الذي تمشي عليه أن يصبح موطنك وليس هدفك من نهاية الطريق، عليك أن تصادق الطرق وأطراف الطرق الطويلة والمتفرعة بلا انتهاء. عليك أن تكون غارقاً في الطريق بينما أنت تنظر إليه من بعيد وترى ما يجاوزه ويتعداه في ذات الوقت. لا تصدّق أحداً يقول أن الحياة قصيرة. الرحلة أطول مما تظن، والطرق أكثر مما تظن. والجهد، كل الجهد تحتاجه لحظة الآن، لأن لحظة الآن وحدها تُثمر ما بعدها. وأنت لا تملك شيئاً من الزمن سوى الآن. وحدها اللحظة ستخبرك ماذا عليك أن تفعل. ستُشعرك بمدى جاهزيّتك حين تركز عليها جيداً. قد تخبرك أن تعمل وتنطلق الآن، قد تخبرك أيضاً ألّا تفعل شيء، وإنما تقف وتستشعر وتدرس عمق ذاتك وعمق كل شيء حولك، حتى يتسنى لك العمل من أجل اللحظة القادمة. ثم تحظى برحلة سعيدة.





يحدُث أن أستيقظ في الصّباح، وأجد أحلامي مُبعثرة خارِجَ حُدود استيعابي. يحدُث أن أعيش أحداث قِصةٍ ليسَت بقصّتي، تمامًا كالقصّة التي قرأتها قبلَ أيّامٍ ولم أُنهيها فقط لأنني تنبّأتُ بنهايتها البائسة. يحدُث أن أُلاقي نفسَ الشّخوص، ثم أستيقظ على نفسِ المُصادفات فأبتلِع ذاتَ الآمال والخيبات. يحدُث أن أعتنقَ حُلماً لا يشبهُني، وأتمنى أُمنية باهِتة لا تعنيني.

ماذا يَعني أن تُعارِك حَديث قلبك، لأنكَ ماعُدتَ أنت، لأنكَ بدأتَ تنتقل مِن رِوايةٍ إلى أخرى، ومن فصلٍ إلى آخر، حتى نسيتَ أيُّها هيَ قِصّتك، وأيُّهُم هوَ أنت. إنّ القصص التي كنتَ تنبذها في الآخرين قد تنتقل إليكَ في ظرفِ لحظة، قد تصبح أنتَ بطلها، وكل موقفٍ فيها سيدور حولك. ستُدافِع عن مُعتقداتٍ كنتَ تكرهها، وستَرى سَذاجات الآخرينَ فيك. خطواتك التي كنتَ تتبعها تاهت مِنكَ سَلفاً. وزحامُ المَدينة، الآن عالِقٌ بداخلِ رأسك. كلّ ما تفعلهُ الآن، أنك تبحث عنك في وجُوه الأصدقاء القُدامى. في الأماكن التي كانت تُشبِه مِزاجاتك وطُمأنينة قلبك، في صمتك وفي حديث أمّك، في بُكائك وتأمُّلاتك. وأنّكَ رغم كلِّ شيء، تُحاول فقط ألا تُعطّل أشيائكَ الجيّدة القليلة.

إنَّ ما تخشى حُدوثه، حتى حِرصك الزائد لا يَمنع حدوثهُ بالضّرورة. قد تهبط عليك الابتلاءات واحداً تلو الآخر، قد تقتبس أمنياتٍ لا تمت لقلبك أيّ صلة، فتَصير واقِعاً رديئاً. قد تخذل نفسكَ وتفتعِل سلوكاً يُناقِضُك، قد تنغمس في حكاية تكسِّر فيكَ ألفَ أمنيةٍ وألفَ حُلم.. لِتُمسِك بقلبكَ بعدها وتظنّهُ رَثّاً لا يَصلُح لشيء.

حِينها لا تقلق ..

اُنظُر إلى وجهِك بالمرآة، لقد أصبحتَ أكثرَ نُضجاً. ستعرف جيداً مَن أنت، وماذا يُناسبك من هذهِ الحياة. ستتعلم كيفَ تنظُر إلى السّماء، وكيف تملأ قلبك بالنّور الذي يهبط من الأعلى. ستُدرِك أن خطاياك التي يستُرُها الكريم جلّ وعلا ما وُجِدَت إلّا لتزدادَ 
تواضُعاً، وبلا توقُّف تُنَقّب عن طريق النور، والثبات عليه.


(إنّ اللهَ لا يَخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماء). 
ما أعظم أن تتجلى لك حكمة الله في تخفّي أسبابك عن الناس -مهما حاولت شرحها-، حتى لا تكل نفسك للناس. وفي أسبابك الأخرى التي تتخفى حتى عن ذاتك، حتى لا يكلك اللهُ إلى نفسك وإلى مقدرتك، لأنها مقدرة محدودة وناقصة. 

ما أسهل أن يتّهم الناس بذرة الخير داخلك بالسوء، وما أسهل أن يصدق الناس أقرب ظن منهم عنك ويتداولونه ويُشهرونه، واللهُ يقول (وإنّ الظنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئا). ما أسرع أن يظلمك الناس، لأن الذي يخفى عنهم "كثير". كم يَخفى عن الناس كل هذا الحِمل داخلك ولا يخفى عن الله. كم تخفى هذه المكابدة والسوء الذي أصابك ولا يخفى عن الله. كم يخفى كلامك وكم يظهر صمتك وكل ما في الأمر أن صمتك يكبُر.. وصمتك؛ الذي يُقلق الناس يصيبهم بالسوء. فكل من تهجّم عليك بالسوء أصابه صمتك بالسوء سلفاً. والحمد لله الذي لا يخفى عليه القلب وما يحوي. 

ما أسهل أن تخفى عن الناس وما أعظم الله.



؛"شو شكل الشعور؟" يسألني الرجل الجالس أمامي، ينظر إليّ، أمامه ورقة بيضاء، وفي يده قلم حبر جاف.
أجيبه.. "شو يعني؟" 
يوضّح: "لو كان لهذا الشعور شكل، فكيف سيكون شكله؟"..

أنقل نظري خلفه، أسرح حولي.. أتذكر كيف لهذا الشعور أن يتشكّل داخلي، من أين يبدأ وكيف يتكوّن؟ إن كانَ يجرح
القلب فهو شيءٌ حاد. إن كنت أسهر الليل وأنسى معه خفّة الوقت فهو شيءٌ مظلم. إن كان يجعلني أبتسم بلا تردد فهو 
شيءٌ مشرق. إن كان يغيّبني في سكوتي فقد يكون جداراً أبيض، أو جداراً بلا لون. إن كان يجعلني أتّزن فهو شجرة
خضراء كبيرة وبعيدة. إن كان يبعث فيّ الأمل فهو دربٌ طويل. إن كان يشعرني بالأمان فهو معطف
أكبر من مقاسي، داكن ودافئ... 

أظن أن الأشكال تحمل مشاعرها حولنا. أو لعلّها تحمل مشاعرنا داخلها. لهذا السبب منظر الكتب المصفوفة على
رفوفها وهي صامتة تبعث فيّ الانتماء، لطالما كنت أحب أكون كلاماً مغلّفاً أو سراً مكتوباً وسط زحام اللغو والكلام.؛ 
لطالما أحببت أن أكون عنواناً بارزاً يخفي أحجياته الخاصة. أظنني أصبحتُ كذلك، حتى غرقت في سطوة الصمت
والاختباء وتحولَتِ الرغبة فوقي إلى سحابة ضخمة منهمرة، ثم تحولتُ أنا إلى محيطٍ أزرق.
هل أبدو كمحيطٍ أزرقَ وضخم؟ 

لا أدري.. هل يُشكّلني الشعور؟ هل يشكّلني مزاجي؟ إن كان كذلك فسيبدو مثيراً لو أني خمنت أشكال الناس في
وجوهها وإيماءاتها. بستان أخضر.. نهر هادئ.. كهرباء لاسعة.. مكبّر صوت.. سحابة عابرة.. جبل شاهق.. كوخ مليء 
بالسواد.. زهرة ذابلة.. أظنه يشبه أناساً أعرفهم جيداً. 

تنتهي الضجة ويتّسع الفراغ داخلي. ألمس قلبي وأحسّه لا شيء. دوامة الأشكال انتهت، ولم تعطني خياراتها الكافية.
إلّا أن شكلاً واحداً ظلّ عالقاً في قلبي. أعرفه وأتذكره جيداً. ليسَ له لون لكنه يجيد إدماء اللحظة.. إدماء الشعور. 

أعود للسيد الذي أمامي، .. أبتسم وأخبره: زجاج. 
يتأكد: زجاج؟
أجيبه: زجاج مكسور.